يَا سَادَةَ الْعَالَمِ كَفَى اسْتِخْفَافًا بِعُقُولِ الْبَشَرِ
بقلم: الدكتور عذاب العزيز
الهاشمي
يُشير الفيلسوف الفرنسي "ميشيل فوكو"
في كتابه (ولادة الطب السريري)، إلى أنه لا شيء ساهم في ظهور الوعي السياسي والسلطة
السياسية مثل الوباء، حيث تصبح تجربة الموت تجربة جماعية، يشعر الناس جميعًا بالمسؤولية
تجاه أنفسهم ومدنهم وبلادهم، تحدث الفجوات التي يُسبِّبها الموت، يهب الناس للإمساك
بالسلطة لكنهم يتصارعون مع عائلات ذات نفوذ ونُخَبٍ ذات سَطوة.
فيروس كورونا المستجد، المُعْلَن وباءً عالميًّا
من قِبَل منظمة الصحة العالمية، والذي جعل العالم يهرع لمقاومته والوقاية منه، أثار
وسيثير هواجس وأسئلة كبرى على المستويات كافة؛ والسياسية منها بشكل خاص، ويتجه فيروس
كورونا لِأن يصبح فاعلًا مؤثرًا في السياسة الدولية باعتباره يضع النظام العالمي أمام
تحديات كبرى ناتجة عن قصور هذا النظام.
ومن الغريب أن المسؤولية الإنسانية ـ الدولية،
والعالمية على نحو ما حيث تشارك المجتمعات والهيئات والمؤسسات الدول والمسؤولين العمل
لمواجهة الخطر، ومن الغريب أيضًا أنها لا تتجلى في مجالات حيوية أخرى لا تقل الخطورة
فيها عن خطورة فيروسات الأمراض الفتاكة سريعة الانتشار، وأبرز هذه الفيروسات وأطولها
عمرًا على الإطلاق، وأكثرها ضحايا وزلزلة لحياة البشر؛ هو فيروس كورونا المصنوع
سياسيًّا!
والمشكلة في كورونا المسيس أنه كلما انتشر أكثر
توهم القائمون عليه وبعض المصابين بدائه أنه الأبقى والمنقذ والقدر، فيفتك بالاستسلام
لأمره، وأن من يرون أنهم أطباؤه لا يُعالِجونه بالحكمة والمسؤولية عن حياة بشرية وعن
سياسة محلية وإقليمية ودولية عادلة يقيمها ويحيي بها العقل والعدل، وتقتلها وتقتل بها
العنجهية والتوهم بأن الناس أقنانٌ مملوكون وليسوا بشرًا أحرارًا ذوي استحقاقات وحيوات
وحقوق، وأن معظم المصابين بذاك الفيروس أو كلهم يتوهمون أنهم الدواء وليس الداء، وهكذا
يغرق العالم في أخطر وباء كلما قاربته بالعلاج الناجع نفر منك وارتد عليك؛ لأنه يراك
الداء الذي يقاوم الدواء ويستعصي على الشفاء وينتشر منه وبسببه يتفشى الوباء.
اْلفَيْرُوسُ الْحِرْبَاءُ!
هناك من ينشر هذا الفيروس أكثر من سواه ويتعهده
بالرعاية والحماية، ويكافح كل من يكافحه أو يتصدى له، فهو فيروس ينتشر ويتلون ويتشكل
بصور وألوان وأشكال يصعب حصرها، كما يُستعصى تثبيت توصيف شامل له، فأحيانًا يكمن في
الأفكار وينتشر عبرها، وأحيانًا عبر النظريات والمعتقدات الشمولية، وأخرى من خلال المناهج
البراغماتية، والمصالح والنزوات والأمراض الشخصية والطموحات، وجنون العظَمة والهلوسات
التي تُعشش في عقول ساسة وأصحاب نظريات وأيديولوجيات يستشعرون القوة فيغزون بها وبأمراضهم
العالم، بعنصرية وعنجهية وغطرسة تستخدم كل أشكال الظلم والقهر والاستفزاز إلى جانب
القوة والفتك بالسلاح، فتبعث فيما تبعث التعصب والتطرف.
وفي الأحوال والتشكلات والتجليات جميعًا التي
لهذا الفيروس المزمن؛ نجد أنه يكون قاتلًا بوحشية، ومدمرًا للحياة ومقوماتها، وللقيم
الإنسانية والأخلاقية وللعلاقات البشرية، بالإرهاب والرعب، وتكون مكامنه وحواضنه ومواطن
تكاثره هي الأنفس المَرضى التي تهيئ مناخًا وغذاءً يزيدان التكاثر والنمو، حيث يتجدد
الفيروس فيها وينبعث منها بين حين وآخر جبارًا عتيًّا، ويبقى في ظلمة كهوفها لا يضعُف
هناك ولا يفنى.
وبدلًا من أن يستنفر العالم ويتعاون لوضع حد
لفتكه وانتشاره بالتصدي له في مصادره وحواضنه وأماكن انتشاره، نجد أن دُولًا قوية ومتقدمة
ومتحضرة تتعاون وتتحالف لتزيده شراسة وانتشارًا وقوة فتك وتدمير؛ ولتطيل عمره وتحميه
وتُنمّيه؛ بينما تعجز عن التعاون الناجح القادر على الحد من انتشار هذا الفيروس ووضع
نهاية لفتكه بالشعوب والبلدان!
يكاد الفارق يكون معدومًا بين من يصنع الموت
ويُصدِّره للعالم، وبين من يمنع الشعوب من أن تقوم بمهامها في مكافحة وباء الكورونا
عبر الحصار الجائر والعقوبات الغوغائية ووسائل التلاعب بكل مقتضيات العمل الإنساني
في هذه الأيام الحرجة، إن القاتل بالفيروس لا يختلف عن القاتل بالحصار والعقوبات، ويبدو
أن المسار الأمريكي يتحرك على هذا المدى ذهابًا وإيابًا، فالمهم هو أمريكا وما يقرره
ترامب؛ هذا الرئيس الأميركي الذي لا مثيل له في الحقد والتجبر والتكبر، والنظرة إلى
الآخرين على أنهم كميات بشرية لا تصلح إلا لتلقّي الأوامر الأمريكية، ولا تصلح أوطانها
إلا أن تكون حدائق خلفية متناثرة تؤمّن لأمريكا كل ما تطلبه أو تتطلبه المناهج الأمريكية
القائمة على الجريمة وغواية سفك الدم.
إن علاج فيروس كورونا السياسي مهم بدرجة كورونا
الآخر، إن لم يكن أكثر أهمية، ولكن من الضرورة بمكان أن يتم الاتفاق على الحد الأدنى
الإنساني ـ الأخلاقي البنّاء؛ ليكون بمثابة مسطرة عالمية حاكمة ومعايير متفق عليها،
ومرجعيات بحكم الثوابت يُحتَكَم إليها ويُعمَل بها؛ لكي ننطلق منها وبها ونبني جميعًا
عليها ونعالج بها، وهذا من الأمور الصعبة ولكنه ليس من المستحيلات على الإطلاق، فالبشرية
اليوم، باتت في خطر متعدد الجوانب والأوجه، وإزالة هذا الخطر تحتاج إلى تصحيح السياسات
التي يجب أن تدفع للحفاظ على مصالح الشعوب والدول؛ كي تتحقق الفوائد للضعفاء والأقوياء
على حد سواء.
كما أنَّ الصراع بين الولايات المتحدة والصين
في عصر القوة الرقمية، ليس على شاكلة الصراع الذي كان بينها وبين الاتحاد السوفييتي
في عصر القوة النووية، والآن أصبحت القوة الذكية التي أساسها المعرفة؛ هي السلاح القادر
على اختراق الحدود بلا حروب، لا باردة ولا ساخنة؛ بينما تحولت الحرب الباردة، بما لها
من أدوات؛ مثل سباق التسلح، والاستفزازات العسكرية، والحروب بالوكالة، ثم الحروب التجارية
والتكنولوجية، والعقوبات الاقتصادية، إلى لعبة خاسرة تستنزف أصحابها.
فالمعركة التي تخوضها البشرية في الوقت
الحالي؛ للسيطرة على وباء كوفيد – 19 تُقدم لنا درسًا، تتجلى فيه مقومات القوة الذكية
للصين، في مواجهة الحرب الباردة المتعددة الأبعاد التي تخوضها الولايات المتحدة ضدها.
وأخيرًا، نجد الحكومات قد تعاملت مع الوباء بتباطؤ
واستخفاف، وخوف من وقوع المصالح الاقتصادية وانخفاض عوائد السياحة والضرائب؛ وبالتالي
تَفَشّى المرض، وانتشر دون أن يكون لدى الحكومات أي جاهزية طبية أو خطة إستراتيجية
لمواجهة الوباء.
