تُعتبر هذه القصيدة من أهم وأقوى
القصائد التي قِيلت في عصر صدر الإسلام؛ نظرًا لمناسباتها وقوة وجزالة كلماتها.
أولًا: موضوعات مقدمة القصيدة:
أ-
الغزل: حيث بدأ كعب بن زهير رضي الله عنه
القصيدة بالغزل في محبوبته التي كنا عنها باسم سعاد.
إنّ هذه المقدمة قد تكون معادلًا
موضوعيًّا لتجربة كعب بن زهير التي عبَّر عنها بطريقةٍ فنيةٍ، أُعجب بها الرسول
صلى الله عليه وسلم ليس بالغزل؛ وإنما بالخُلُقِ الفني المتكامل لتجربة الشاعر
الشخصية، التي كان يمر بها.
وقد ذهب الدكتور عبد الحليم حفني إلى أنَّ
عُنصر الغزل يُعتبر أضعف صور القصيدة وجوانبها، وقد يكون هذا الحكم مقبولًا لو
فسرناه على أنه غزل تقليديّ.
ب-
الناقة: حاول الشاعر من خلال هذا الموضوع
الوصول إلى الهدف المنشود، حيث كان الشعراء الجاهليين والمخضرمين حين يُصيبهم الهمَّ
يصرمون همومهم في الصحراء مع نُوقهم.
وأيضًا، حين تخلى الناس عن كعب بن زهير
رضي الله عنه، لجأ إلى ناقته لترافقه رحلة البحث عن الحياة.
ولكن ربما ليس المراد بالناقة في
القصيدة الناقة على حقيقتها؛ وإنما هي الحرية الباحثة، فاذا كانت سُعادٌ هي الحياة
أو الحب، فتكون الناقة هي حرية المعاناة.
ج-
المشهد الجنائزي:
صورة بديعية، أبدع فيها الشاعر فيما أبدع!
مستخدمًا التضمين الذي أثرى الصورة ثراءً عظيمًا، فما أجمل هذا وأبدعه!
د-
تخلِّي الناس عن كعب:
ذكر الشاعر في القصيدة تخلِّي جميع
الناس عنه، عندما علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم سوف يهدر دمه، كما أكدوا له
أن سعيه بلا فائدة، وأنَّ جُهده سيذهب سُدى، وأنه مقتولٌ كيفما كان.
حتى الأخلاء الذي كان يأمل منهم أن
يساندوه تخلو عنه، واصطفوا صفين على يمين الناقة وشمالها، وكلهم يقولون: "لا
منجي لك، ولا ملاذ، أنت مقتولٌ مقتولٌ".
فيا ليتهم سكتوا،
وإنْ لم يكونوا قد استطاعوا فعل شيء.
ثانيًا: الوقوف
مع بعض الصور الفنية في القصيدة:
أ-
أسلوب الشاعر بين الرقة والقوة:
حيث اتصف أسلوبه
في بعض الأبيات، فحينًا بالرقة وحينًا آخَر بالقوة، كما تضم القصيدة عدة مواقف
وموضوعات؛ منها الموقف الغزلي، ووصف الناقة، والوعيد، والاعتذار، ومدح المهاجرين
وغيرها؛ فكان من الطبيعي اختلاف الأسلوب بين الرقة والقوة، ففي الغزل كان الأسلوب
رقيقًا سلسًا، وفي وصف الناقة كان قويًا خشنًا.
كما اتصف أسلوبه
بالدقة والعناية في اختيار الكلمات.
ب-
استخدام الفعل المضارع:
استخدم الشاعر
الفعل المضارع بكثرة في قصيدته، وكثرة استخدامه تُوحي باستحضار الشاعر الصورة مائلة
حية أمامه لا تكاد تخطئها العين.
واستخدامه لكلمة
"الضَّغِيمِ" على ما عداه من أسماء الأسد؛ لأن هذا يوحي بالضراوة
والتوحش والافتراء.
كما أظهر الشاعر
عاطفته وحالته النفسية، فاستخدم ألفاظًا تُوحي بخيبة الأمل؛ منها: (بانت – متبول –
متيم – مكبول - أمست)، وتلك الألفاظ التي توحي بخيبة الأمل أكثر من
التي تحقق الرجاء.
ج-
التصوير الأدبي:
استخدم الشاعر
صورًا بيانيةً رائعةً؛ منها صورة المرأة الثُّكلى يجاوبها النساء باللطم والندب
والصراخ.
د-
المعادل الموضوعي:
يظهر واضحًا لمن
يتخيل صورة كعب ومشاعره، وهو يتصور الموت في مقابله أول إنسانٍ له قبل أنْ يصلَ
مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفي قوله:
"لا يبلغا" و "لن يبلغا"، لم تكن مجرد تكرارًا للكلمات بل هو؛
لأنه يُنعي روحه الزاهقة.
ه-
الموسيقي:
هذه القصيدة من
بحر البسيط؛ وهو بحر مناسب لإظهار الاحزان والهموم، كما بدأ الشاعر بالتصريع، واستخدام
الجناس أيضًا، واختار اللام راوية للقصيدة، والواو والياء للرّدف.
ثالثًا: آراء
النقاد في مقدمة بردة "كعب بن زهير":
-
قال عبد اللطيف البغدادي:
القصيدة لا تبدو متساوية الأجزاء؛ فقد أوجز في ذكر سُعاد، واختصر في وصفها، وأطال
في وصف الناقة، وهذا معيارٌ ينبغي أن نُجنبه مجال الشعر؛ فليس
مفروضٌ على الشاعر أن يوزع قصيدته وفق أنصبة معينة؛ وإنما يوجز ويطيل حسبما تقتضي
التجربة الشعورية، ووفق ما يفرض عليه إحساسه وعواطفه.
-
ويعلق الدكتور محمد أبو موسى على
البيتين:
وقالَ
كلُّ خليلٍ كُنْتُ آمُلُهُ لا
أُلفينّكَ إنّي عنكَ مشغولُ
فقلتُ
خلّوا طريقي لا أبا لكمُ فكلُّ ما قدّرَ الرحمنُ مفعولُ
قائلًا: ورابط بين الموقفين هذا الرباط الواضح الذي نراه في الفاء،
وكلمة قلت المعطوفة على قالوا؛ أي قال فقلت، والانتقال إلى هذا البيت؛ كأنه انتقالٌ
من ظلمات الجحيم الذي اتقن كعب بيانه، إلى حقيقة من أجل حقائق الإيمان؛ وهي
الاستسلام لرب العالمين، ونزع مقاده النفس، ما الجاهلية وأقاويل أهلها إلى نور الإيمان
وصراط الله المستقيم.
كما يعلق على
قوله "لا أبا لكم" بقوله فيها معنى طرح للجاهلية وطرح أصولها ومواريثها؛
وهي كلمة تُقال في كلام العرب في المدح والهجاء، فاذا جاءت في المدح؛ فالمقصود
تفرده وأنه لا أبًا له حتى يلد مثله، وإذا جاءت في الذم، فالمقصود أنه ليس له أب
معروف.
كما يقول أيضًا:
(ولا شك أنَّ
كعب رضي الله عنه، كان قد اطلع على دين الله وسمع القرآن قبل أنْ يُلقي هذه القصيدة
على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يُقبِل لحقن دمه؛ وإنما أقبل ليلعن
دخوله في دين الله.
-
يقول الدكتور علي صبح: "إنها
شعر وجداني في الحب الإسلامي آية الحب الإلهي والحب المحمدي"، ويقول أنّ
القصيدة تضمنت بعض القيم الخُلُقِيَّةِ؛ وهي:
1- اتخاذ
الجمال بأوصافها الحِسِّيَّةِ؛ مثل جمال المرأة وجمال الطبيعة.
2- الإيمان
بقضاء الله وقدره، والرضا به بالقناعة بأن لكل إنسانٍ من أَجَلٍ واقعٍ لا مُحال.
3- الاعتذار
والاعتراف بالذنب، والندم على فعله، والعزيمة الصادقة على هجره، وتحريم الغيبة
والنميمة من المَشَّائينَ والنَّامِّينَ.
4- التوبة
والمعاناة النفسية بالندم والخوف من عدم القبول.
5- العزم
والتصميم، والعهود والمواثيق على الصدق في الإسلام، ومبايعة الرسول صلى الله عليه
وسلم على الإيمان الصادق والجهاد في سبيله.
ولكن هذه الأقوال
على غير أساس، فيتوهم القارئ أنه يقرأ قصيدة غير التي يعلق عليها أساتذتنا، ربما
كانت خطبة جمعة ليست قصيدة اعتراف بالذنب، كما تكشف بعض الأبيات أنّ كعبًا لم يكن
يعرف شيئًا عن القرآن.
-
ويقول الدكتور حسن الشرقاوي:
إنّ الشاعر بدأ
يتذوق حلاوة الإيمان، ويستشعر التسليم بالقضاء والرضا بما كتبه الله، ولكن القصيدة
كانت في الجاهلية؛ فهو لم يَعْرِف عن الإسلام شيئًا بعد، فكيف يتذوق حلاوة الإيمان؟
ويقول أيضًا: لقد
ضاقت الأرض بما رحبت على كعبٍ بعد أنْ علم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد
وعده بأنه سيهدر دمه، وتجسدت له صورة السيف المسلط فوق عنقه.
ولكن هذا كلام
مردود فيه، فالشاعر الذي يحيط به الموت من كل جانب؛ ينسى الناس جميعًا، لقد تخلى
عنه الأخلاء فلا تُغني عنه الحبيبة شيء.
ويضيف قائلًا:
ثم ما الذي يمنع أنْ يكون كعبٌ نفسه قد تأثر بما شاع وذاع من تعاليمَ الدين الجديد؛
حتى إذا منَّ الله عليه بالإسلام انسالت معاني صادقة بالروح الدينية دليلٌ على صدق
إسلامه وقوة إيمانه.
كما يقول: ها هو
في ظل الإسلام وفي حضرة سيد الأنام شعَّ النور في قلبه، وتبددت ظلمات اليأس والخوف.
-
ويقول الدكتور رفعت علي محمد
راجع هذين البيتين توقن بأن كعبًا نظر في القرآن الكريم:
أُنْبِئْتُ
أنَّ رَسُولَ اللهِ أَوْعَدَنِي
وَالعَفْوُ عَنْدَ رَسُولِ اللهِ مَأْمُولُ
وهل يقول والعفو
عند رسول الله، ألَا عَرِفَ أنَّ الله يعفو.
-
كان ابن سلام قد صنف كعبًا في
الطبقة الجاهلية.
