وَبَاءُ كُورُونَا فِي المُتَوَالِيَةِ الحِسَابِيَّةِ والهَنْدَسِيَّةِ
بين الإنسَانِ وأَوْلَوِيَّاتِهِ الاقتِصَادِيَّةِ
بقلم: الدكتور عذاب العزيز الهاشمي
درجة الوعي عند الإنسان في تحديد معالم مستقبله وحياته الطبيعية يبدو أنها غُيِّبَت وذهبت مع زحمة المتطلبات المتراكمة والمتزايدة مع صراع الشركات وتنوع المنتجات المتنافسة، بحيث أصبح الصراع عنوانه ثراء الإنسان حتى على حساب قيمه ومبادئه، فالمنافسة خلقت فينا العفَن الغير أخلاقي في العلاقات الإنسانية البسيطة التي كانت سائدة أيام الطفولة الجميلة والعائلة، وكان فيها الناظم الأخلاقي الديني الخلاق وحب المعرفة؛ كهدف لتطور القيم والمبادئ.
إن جشع الإنسان قلَب المعادلة، بحيث أصبحت قائمة على أساس المزاحمة الشرسة، بغض النظر عن الوسيلة، فكان الدمار، والاحتلال، والقتل، والنفاق، وسرقة الأحلام السعيدة للجيل القادم.
جاء وباء كورنا وكأنه ليعطي للبشرية درسًا في معاني الأولويات التي كانت لابد أن يفهمها الإنسان، ولكن أعتقد قد فات الأوان، ولم يتعلم الإنسان من التاريخ القريب، فعلى سبيل المثال:
قبل أن يودع العالم عام 1984م، اهتز ضمير البشرية كلها من حلول مأساة (الجفاف والموت) في إفريقيا، وهي المأساة التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من الأبرياء في إثيوبيا وغيرها من بلاد القارة السوداء.
وقبيل ذلك خلال العام ذاته، رُوِّعَ العالم أيضًا بكارثة مصنع المبيدات الحشرية في مدينة (بوهوبال) الهندية، والتي شكلت مأساة آسيوية راح ضحيتها عشرات الآلاف من الأبرياء بفعل (تلوث جوّ) تلك المدينة؛ كنتيجة لتسرب بعض الغازات السامة من ذلك المصنع.
ومع مشارف عام 1985م، تأتينا الأنباء من أوروبا والأمريكيتين ناعية مصرع عشرات المئات من الأبرياء بفعل (الصقيع والجو القارس) الذي ساد غالبية دول تلك القارات، وفي عام 1990م تصدع مصنع تشرونوبل النووي في روسيا، والآن أزمة المياه في العالم وخاصة الشرق الأوسط، وكذلك ارتفاع درجات الحرارة وذوبان الجليد في جزيرة (جرينلاند) بأكثر من معدله الاعتيادي، ومعنى ذلك حدوث طوفان ماء عند ذوبان الجليد وتضرر، خاصة المدن المحاذية للسواحل.
وأخيرًا، جاء وباء كورونا المستجد، فحصد أكثر من 60 ألف شخص، وأكثر من مليون شخص مصاب حول العالم.
وهكذا، تعددت الأسباب والموت واحد!
فقد يبدو الأمر -للوهلة الأولى- كما لو كان ظرفًا استثنائيًّا، أو مصادفة سيئة لمجموعة أحداث متفرقة لا رابط بينها.
ومع ذلك، فالنظرة الثاقبة للأمور التي تستقرئ التاريخ -قريبة وبعيدة- لابد وأن تلمح (خيطًا مشتركًا) يربط بينها جميعًا، وتكرارًا متواترًا يُنفي عنها صفة الاستثنائية ويُضفي عليها طابع الظاهرة.
فأمّا الخيط الذي ينظمها معًا، فهو الموت بفعل عوامل (البيئة) التي يعيش فيها الإنسان...
إمّا لضحالة مواردها الطبيعية أو لسوء استخدام الإنسان لهذه الموارد، أو لعدم مواتاة بعض عناصرها لحياته أحيانًا.
وأما الظاهرة، فهي تفاعل الإنسان مع الطبيعة أو صراعه الدائم لقواها وعناصرها المختلفة، وهو الصراع الذي شكل تاريخ البشرية... ولا يزال، وبرغم ما قد يبدو من قسوة الطبيعة في بعض الأحيان، فالثابت أنه ما من (مُعِين) ساهم في سد حاجات الإنسان المتعددة المتجددة -وبالتالي كان سببًا في بقاء الجنس البشري واستمراره على امتداد تاريخه الطويل- إلا ما كان (مصدره) الطبيعة.
فالإنسان هو المخلوق الوحيد على وجه الأرض الذي ميزه الله بعقل خلّاق، مكّنه من أن ينهل من مَعِين عناصر الطبيعة ومصادرها المختلفة -والتي سخرها الرحمن له- مطوعًا إياه لما فيه خيره ومنفعته.
ومنذ ذلك اليوم البعيد الذي وطأت فيه قدم الإنسان، سطح الأرض، للمرة الأولى وهو يأخذ بما وهبه الخالق من قدرات وما زوده من طاقات وإمكانات في اختيار ما يشاء من عناصر البيئة التي يعيش فيها، ويقوم بتطويعها واستغلالها وابتكار منافع منها توفر له حاجاته وتشبع رغباته.
والشّاهد أن الإنسان لم يقنع أبدًا بمجرد العيش، بل كان يطمع دائمًا في حياة أفضل، ولذلك لم يعمل على سد احتياجاته الأساسية فحسب، وإنما أخذ يعمل على احتياجاته الحضارية أيضًا، غير أن الأمر المؤسف هو ما نراه اليوم في العالم بعد كل هذه القرون التي عاشها الإنسان وكل ما حققه من إنجازات وما توافر له من معارف وخبرات -من انقسامه ماديًّا وفلسفيًّا إلى عالمين مختلفين... كوكبين منفصلين... مجموعتين غير متكافئتين من البشر: مجموعة غنية إلى حد يثير الخجل، وأخرى فقيرة إلى حد اليأس...
ولقد تباينت وجهات النظر في تفسير ذلك وتعددت، غير أن معظمها يلقي اللوم على ذلك التزايد الهائل في عدد سكان المعمورة، خصوصًا في دول ما تُسمى بالعالم الثالث الفقيرة المتخلفة بمعدلات تفوق كثيرًا معدلات النمو في مواردها الاقتصادية، بحيث يبدو كما لو أن شبح (مالتوسية جديدة) (نسبة إلى الاقتصادي الإنجليزي الشهير (مالتس) الذي يعد واحدًا من أبرز كُتَّاب المدرسة الكلاسيكية، فلقد دانت الشهرة له كنتيجة لكتاباته في المسألة السكانية، والتي ادعى فيها أن العالم لابد أن يشهد كل ربع قرن ما يشبه المجاعة؛ وذلك نتيجة تزايد سكانه وفق متوالية هندسية بينما تتزايد موارده وفق متوالية عددية).
بدأ يخيم بظلاله القاتمة على العالم من جديد مهددًا بعودة (أعوام الجوع)، التي قاسى منها في أربعينات القرن الماضي كثير من المتخّمين بالوفرة والغنى من الوقت الحاضر.
ولذلك يخشى هؤلاء المتشائمون من قرب اجتياح (مد الفوضوية المشبع بالدم) الذي لابد وأن يسوق إليه يأس ملايين الجياع (الجدد) تحت اعتقادهم بأن العدل يقتضي أن يشرب الكل من كأس (الحنظل)، طالما لا يوجد من (الشَّهد) ما يروي ظمأ الجميع!
وبالرغم من ذلك، ففي نفس الوقت الذي يصرخ فيه الكثيرون في مواجهة مأساة ندرة الموارد وانفجار السكان، وتكثف وسائل الإعلام برامجها للحث على تحديد النسل والتحذير من الموت جوعًا، تبرز وجهة نظر مخالفة تبشر باقتراب إشراقة (الفجر)... الذي طوبى لمن يشهده!... ويؤمن أنصار هذه النظرة بأن الندرة خرافة... والجوع صناعة... وكل تلك المخاوف إن هي إلا خزعبلات يروج لها المستفيدون من الأغنياء في الدول المتقدمة حتى تنتعش هذه (الصفوة) على حساب ازدياد الفقر في العالم الثالث فقرًا... ويتبنى هؤلاء المتفائلون فلسفة خاصة بالموارد وهي الوفرة والكفاية.
وإن موارد العالم حاليًا تزيد عن حاجته، والنقص فيها إنما يرجع إلى سوء التوزيع أولًا، وإلى تخلف الخبرات والمهارات وفنون التقنية ثانيًا، فرغم أنه يولد في كل عام مئات الآلاف من البشر.. فيضيق العالم على سعته بهم، إلا أنه في الوقت نفسه تولد كل عام مئات الأفكار والمخترعات ويزيد أفق المعرفة (أمُّ الموارد كلها... فيتسع العالم على ضيقه لهم!)
وهكذا، سواء أكان الخوف أم الأمل هو الذي يحرك أعماق النفوس، فالذي لا شك فيه أن مشاكل البيئة وتأثيراتها الإيجابية والسلبية على الإنسان، قد أضحت قضية العصر التي تشغل اهتمام دول العالم قاطبة... شماله الغني الذي يخشى انحسار تيار الرفاهية والرخاء الذي ينعم فيه... وجنوبه الفقير الذي يحاول في استماتة أن يحقق أحلامه وطموحاته وتوقعاته العالية على الأقل، أن يفلت من براثن أخطبوط التخلف الذي يكبله إلى دوائر - من الفقر - خبيثة.. يتردى فيها منحدرًا إلى سفح هاوية لا يعلم مداها إلا الله!
إنها قضية العصر بحق؛ لأنها تقف وراء كل مشكلة يعاني منها ابن آدم، وكل هدف يصبو إلى تحقيقه، فمهما اختلفت التفاصيل... وتعددت الأغراض... وتباينت المظاهر، فالداء واحد وسببه ما يعرف بالمشكلة الاقتصادية التي تواجه الإنسان منذ بدء الخليفة وستظل تلازمه حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا... فرغبات الإنسان وحاجاته متعددة.. متجددة ومتزايدة.. غير أن وسائل إشباع هذه الحاجات من سلع وخدمات استهلاكية نهائية، جدّ محدودة؛ لأن (المستخدمات) التي تدخل في إنتاجها محدودة بدورها؛ فالعناصر التي تم إعدادها لتوفير هذه المستخدمات هي الأخرى محدودة.
كما تأتي عناصر الإنتاج محدودة أيضًا؛ لأن الموارد الاقتصادية التي منها تهيأ عوامل الإنتاج لتصبح مستعدة فعلًا للمساهمة في علمية الإنتاج، محدودة هي الأخرى، وسبب حدودية الموارد الاقتصادية، هو أن مصادرها - على الأقل المعروف منها- نادرة وفقيرة بدورها.
وفي الحقيقة هناك مصدرين رئيسيين لكافة الموارد،هما الإنسان والطبيعة،وهما يوفران كل على حدة - بعض الموارد، كما أن تفاعلهما معًا إنما ينتج عنه نوع آخر من الموارد، وهو ما يعرف بالموارد المصنعة أو الحضارية.
وعلى ذلك، فبيت الداء بالفعل هو الإنسان والطبيعة، وذاك الصراع المستمر بينهما وهو صراع كثيرًا ما كان الإنسان يعتقد في أحيان مختلفة أنه قد حسمه نهائيًّا لصالحه، غير أنه سرعان ما يكتشف أن بينه وبين ذلك فرق شاسع ورحلة شاقة طويلة! إنه الصراع الخالد الذي يشكل تاريخ البشرية وقصة الحضارة الإنسانية.
والسؤال هنا، هل سنستدرك الوعي والأخلاق التي فقدناها؟
